سورة ص - تفسير تفسير الزمخشري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}
وقرئ: {نعم العبد} على الأصل، والمخصوص بالمدح محذوف. وعلل كونه ممدوحاً بكونه أوّاباً رجاعاً إليه بالتوبة. أو مسبحاً مؤوّباً للتسبيح مرجعاً له، لأن كل مؤوّب أوّاب. والصافن: الذي في قوله:
أَلِفَ الصّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ *** مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلاَثِ كَسِيراً
وقيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل: هو المتخيم. وأما الصافن: فالذي يجمع بين يديه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يقوم الناس له صفوناً فليتبوّأ مقعده من النار» أي: واقفين كما خدم الجبابرة.
فإن قلت: ما معنى وصفها بالصفون؟ قلت: الصفون لا يكاد يكون في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص. وقيل: وصفها بالصفون والجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين: واقفة وجارية، يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها. وروى أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين، فأصاب ألف فرس. وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة. وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوماً بعد ما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي، وتهيبوه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته، فاستردها وعقرها مقرباً لله، وبقي مائة، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها، وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها. وهي الريح تجري بأمره.
فإن قلت: ما معنى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى}؟ قلت: أحببت: مضمن معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل: أنبت حب الخير عن ذكر ربي. أو جعلت حب الخير مجزياً أو مغنياً عن ذكر ربي. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أن {أحببت} بمعنى: لزمت من قوله:
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إذْ أَحَبَّا ***
وليس بذاك. والخير: المال، كقوله: {إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] والمال: الخيل التي شغلته. أو سمي الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» وقال في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: «ما وُصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل» وسماه زيد الخير. وسأل رجل بلالاً رضي الله عنه عن قوم يستبقون: من السابق؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له الرجل: أردت الخيل. فقال: وأنا أردت الخير. والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك. أو المخبأة بحجابهما. والذي دلّ على أن الضمير للشمس مرور ذكر العشي، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر.
وقيل: الضمير للصافنات، أي: حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام. ومن بدع التفاسير: أن الحجاب جبل دون قاف بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه {فَطَفِقَ مَسْحاً} فجعل يمسح مسحاً، أي: يمسح بالسيف بسوقها وأعناقها، يعني: يقطعها. يقال: مسح علاوته، إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه.
وعن الحسن: كسف عراقيبها وضرب أعناقها، أراد بالكسف: القطع، ومنه: الكسف في ألقاب الزحاف في العروض. ومن قاله بالشين المعجمة فمصحف. وقيل: مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها.
فإن قلت: بم اتصل قوله: {رُدُّوهَا عَلَىَّ}؟ قلت: بمحذوف، تقديره: قال ردّوها عليّ، فأضمر وأضمر ما هو جواب له، كأن قائلاً قال: فماذا قال سليمان؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاءً ظاهراً، وهو اشتغال نبيّ من أنبياء الله بأمر الدنيا، حتى تفوّته الصلاة عن وقتها. وقرئ: {بالسؤوق} بهمز الواو لضمتها، كما في أدؤر. ونظيره: الغؤر، في مصدر غارت الشمس. وأما من قرأ بالسؤق فقد جعل الضمة في السين كأنها في الواو للتلاصق، كما قيل: مؤسى: ونظير ساق وسوق: أسد وأسد. وقرئ: {بالساق} اكتفاء بالواحد عن الجمع، لأمن الإلباس.


{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)}
قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة. وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وكان من فتنته: أنه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفك من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم ذلك، فكان يغدوه في السحابة فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتاً، فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه، فاستغفر ربه وتاب إليه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال سليمان: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهنّ فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون»، فلذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان}. وهذا ونحوه مما لا بأس به. وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان، فالله أعلم بصحته. حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر، وأنّ بها ملكاً عظيم الشأن لا يقوى عليه لتحصنه بالبحر، فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها وأصاب بنتاً له اسمها جرادة من أحسن الناس وجهاً، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها، وكانت لا يرقأ دمعها حزناً على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته، وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن له كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش له الرماد، فجلس عليه تائباً إلى الله متضرّعاً، وكانت له أمّ ولد يقال لها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه عندها يوماً وأتاها الشيطان صاحب البحر- وهو الذي دلّ سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة خاتمي، فتختم به وجلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس، وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف، فإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه، ثم عمدوا إلى السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كلّ يوم سمكتين، فمكث على ذلك أربعين صباحاً عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان، وسأل آصف نساء سليمان فقلنا: ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة. وقيل: بل نفذ حكمه في كل شيء إلاّ فيهنّ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان، فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم، فتختم به ووقع ساجداً، ورجع إليه ملكه، وجاب صخرة لصخر فجعله فيها، وسدّ عليه بأخرى ثم أوثقهما بالحديد والرصاص وقذفه في البحر.
وقيل: لما افتتن كان يسقط الخاتم من يده لا يتماسك فيها، فقال له آصف: إنك لمفتون بذنبك والخاتم لا يقرّ في يدك، فتب إلى الله عز وجل. ولقد أبى العلماء المتقنون قبوله وقالوا: هذا من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل. وتسليط الله إياهم على عباده حتى يقعوا في تغيير الأحكام، وعلى نساء الأنبياء حتى يفجروا بهنّ: قبيح، وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله {مِن محاريب وتماثيل} [سبأ: 13] وأما السجود للصورة فلا يظن بنبيّ الله أن يأذن فيه، وإذا كان بغير علمه فلا عليه. وقوله: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً} نابٍ عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّاً ظاهراً.


{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)}
قَدَّم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء والصالحين في تقديمهم أمر دينهم على أمور دنياهم {لاَّ يَنبَغِى} لا يتسهل ولا يكون. ومعنى {مِن بَعْدِى} من دوني.
فإن قلت: أما يشبه الحسد والحرص على الاستبداد بالنعمة أن يستعطي الله ما لا يعطيه غيره؟ قلت: كان سليمان عليه السلام ناشئاً في بيت الملك والنبوّة ووارثاً لهما، فأراد أن يطلب من ربه معجزة، فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلاً على نبوّته قاهراً للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: {لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى} وقيل: كان ملكاً عظيماً، فخاف أن يعطى مثله أحد فلا يحافظ على حدود الله فيه، كما قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] وقيل: ملكاً لا أسلبه ولا يقوم غيري فيه مقامي، كما سلبته مرّة وأقيم مقامي غيري. ويجوز أن يقال: علم الله فيما اختصه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، وعلم أنه لا يضطلع بأعبائه غيره، وأوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إياه، فاستوهبه بأمر من الله على الصفة الذي علم الله أنه لا يضبطه عليها إلا هو وحده دون سائر عباده. أو أراد أن يقول ملكاً عظيماً فقال: {لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى}، ولم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال، وربما كان للناس أمثال ذلك، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
وعن الحجاج أنه قيل له: إنك حسود، فقال: أحسد مني من قال: {وهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأَحَدٍ مّن بَعْدِى} وهذا من جرأته على الله وشيطنته، كما حكى عنه: طاعتنا أوجب من طاعة الله، لأنه شرط من طاعته فقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وأطلق طاعتنا فقال: {وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59].

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9